فجر الاسلام
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

كتاب زيارة القبور وطلب الشفاء من الموتى لشيخ الإسلام ابن تيمية .

اذهب الى الأسفل

كتاب زيارة القبور وطلب الشفاء من الموتى       لشيخ الإسلام ابن تيمية . Empty كتاب زيارة القبور وطلب الشفاء من الموتى لشيخ الإسلام ابن تيمية .

مُساهمة  mmm_mmm63989 الأربعاء سبتمبر 15, 2010 6:59 am

زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور
شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني


[نص السؤال]
وَسُئِلَ أَحمد بن تيمية رحمهُ اللّه تعالى عمن يزور القبور ويستنجد بالمقبور في مرضٍ به أو بفرسه أو بعيره‏:‏ يطلب إزالة المرض الذي بهم، ويقول‏:‏ يا سيدي، أنا في جيرتك، أنا في حسبك، فلان ظلمني، فلان قصد أذيتي، ويقول‏:‏ إن المقبور يكون واسطة بينه وبين اللّه تعالى‏.‏ وفيمن ينذر للمساجد، والزوايا والمشائخ حيهم وميتهم بالدراهم والإبل والغنم والشمع والزيت وغير ذلك، يقول‏:‏ إن سلم ولدى فللشيخ على كذا وكذا، وأمثال ذلك‏.‏ وفيمن يستغيث بشيخه يطلب تثبيت قلبه من ذاك الواقع‏.‏ وفيمن يجيء إلى شيخه ويستلم القبر ويمرغ وجهه عليه، ويمسح القبر بيديه، ويمسح بهما وجهه، وأمثال ذلك‏.‏ وفيمن يقصده بحاجته، ويقول‏:‏ يا فلان، ببركتك، أو يقول‏:‏ قضيت حاجتي بركة اللّه وبركة الشيخ‏.‏ وفيمن يعمل السماع ويجيء إلى القبر فيكشف ويحط وجهه بين يدي شيخ على الأرض ساجداً‏.‏ وفيمن قال‏:‏ إن ثم قطباً غوثا جامعا في الوجود‏.‏ أفتونا مأجورين، وابسطوا القول في ذلك‏.‏

[بداية الجواب]
فأجاب‏:‏ الحمد للّه رب العالمين، الدين الذي بعث اللّه به رسله وأنزل به كتبه هو عبادة اللّه وحده لا شريك له، واستعانته، والتوكل عليه، ودعاؤه لجلب المنافع، ودفع المضار، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفي إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 1 3‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 18‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 29‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 56، 57‏]‏‏.‏ قالت طائفة من السلف‏:‏ كان أقوام يدعون المسيح وعزيرا والملائكة، قال اللّه تعالى‏:‏ هؤلاء الذين تدعونهم عبادى كما أنتم عبادى، ويرجون رحمتى كما ترجون رحمتى، ويخافون عذأبي كما تخافون عذأبي، ويتقربون إلىَّ كما تتقربون إلىَّ‏.‏ فإذا كان هذا حال من يدعو الأنبياء والملائكة فكيف بمن دونهم‏؟‏‏!‏


وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 102‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 22، 23‏]‏‏.‏ فبين سبحانه أن من دعي من دون اللّه من جميع المخلوقات من الملائكة والبشر وغيرهم أنهم لا يملكون مثقال ذرة في ملكه، وأنه ليس له شريك في ملكه، بل هو سبحانه له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأنه ليس له عون يعاونه كما يكون للملك أعوان وظهراء، وأن الشفعاء عنده لا يشفعون إلا لمن ارتضى، فنفي بذلك وجوه الشرك‏.‏


وذلك أن من يدعون من دونه، إما أن يكون مالكا، وإما ألا يكون مالكا، وإذا لم يكن مالكا فإما أن يكون شريكا، وإما ألا يكون شريكا، وإذا لم يكن شريكا فإما أن يكون معاوناً، وإما أن يكون سائلا طالباً‏.‏ فالأقسام الأول الثلاثة وهى‏:‏ الملك، والشركة والمعاونة منتفية، وأما الرابع فلا يكون إلا من بعد إذنه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏، وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرضي‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 26‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 43، 44‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 4‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 51‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 79‏:‏ 80‏]‏‏.‏ فإذا جعل من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا كافراً، فكيف من اتخذ من دونهم من المشايخ وغيرهم أربابا ‏؟‏‏!‏


وتفصيل القول‏:‏ أن مطلوب العبد إن كان من الأمور التى لا يقدر عليها إلا اللّه تعالى؛ مثل أن يطلب شفاء مريضه من الآدميين والبهائم، أو وفاء دينه من غير جهة معينة، أو عافية أهله، وما به من بلاء الدنيا والآخرة، وانتصاره على عدوه، وهداية قلبه، وغفران ذنبه، أو دخوله الجنة أو نجاته من النار، أو أن يتعلم العلم والقرآن، أو أن يصلح قلبه ويحسن خلقه ويزكى نفسه، وأمثال ذلك فهذه الأمور كلها لا يجوز أن تطلب إلا من اللّه تعالى، ولا يجوز أن يقول لملك ولا نبي ولا شيخ سواء كان حياً أو ميتاً ‏:‏ اغفر ذنبي، ولا انصرنى على عدوى، ولا اشف مريضى، ولا عافنى أو عاف أهلى أو دابتى،وما أشبه ذلك‏.‏ ومن سأل ذلك مخلوقا كائناً من كان، فهو مشرك بربه، من جنس المشركين الذين يعبدون الملائكة والأنبياء والتماثيل التى يصورونها على صورهم، ومن جنس دعاء النصارى للمسيح وأمه، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 31‏]‏‏.‏


وأما ما يقدر عليه العبد فيجوز أن يطلب منه في بعض الأحوال دون بعض؛ فإن مسألة المخلوق قد تكون جائزة، وقد تكون منهيا عنها، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 7، 8‏]‏، وأوصى النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباس‏:‏ ‏"‏إذا سألت فاسأل اللّه، وإذا استعنت فاستعن باللّه‏"‏، وأوصى النبي صلى الله عليه وسلم طائفة من أصحابه‏:‏ ألا يسألوا الناس شيئا‏.‏ فكان سوط أحدهم يسقط من كفه فلا يقول لأحد‏:‏ ناولنى إياه‏.‏ وثبت في الصحيحين أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ ‏"‏يدخل الجنة من أمتى سبعون ألفا بغير حساب، وهم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون‏"‏‏.‏ والاسترقاء طلب الرقية، وهو من أنواع الدعاء، ومع هذا فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ما من رجل يدعو له أخوه بظهر الغيب دعوة، إلا وكل اللّه بها ملكا كلما دعا لأخيه دعوة قال الملك‏:‏ ولك مثل ذلك‏"‏‏.‏


ومن المشروع في الدعاء دعاء غائب لغائب؛ ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه، وطلبنا الوسيلة له، وأخبر بما لنا في ذلك من الأجر إذا دعونا بذلك، فقال في الحديث‏:‏ ‏"‏إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا على، فإن من صلى عليَّ مرة صلى اللّه عليه عشراً، ثم سلو اللّه لى الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا ينبغى أن تكون إلا لعبد من عباد اللّه، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد‏.‏ فمن سأل اللّه لى الوسيلة حلت له شفاعتى يوم القيامة‏"‏‏.‏


ويشرع للمسلم أن يطلب الدعاء ممن هو فوقه وممن هو دونه، فقد روى طلب الدعاء من الأعلى والأدنى؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ودع عمر إلى العمرة، وقال‏:‏ ‏"‏لا تنسنا من دعائك يا أخى‏"‏، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمرنا بالصلاة عليه وطلب الوسيلة له ذكر أن من صلى عليه مرة صلى الله بها عليه عشراً، وأن من سأل له الوسيلة حلَّت له شفاعته يوم القيامة، فكان طلبه منا لمنفعتنا في ذلك، وفرق بين من طلب من غيره شيئا لمنفعة المطلوب منه، ومن يسأل غيره لحاجته إليه فقط‏.‏ وثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم ذكر أُوَيْساً القَرَنى وقال لعمر‏:‏ ‏"‏إن استطعت أن يستغفر لك فافعل‏"‏‏.‏


وفي الصحيحين أنه كان بين أبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما شىء، فقال أبو بكر لعمر‏:‏ استغفر لى، لكن في الحديث‏:‏ أن أبا بكر ذكر أنه حنق على عمر‏.‏ وثبت أن أقواما كانوا يسترقون، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرقيهم‏.‏


وثبت في الصحيحين أن الناس لما أجدبوا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يستسقى لهم فدعا اللّه لهم فسقوا‏.‏ وفي الصحيحين أيضًا‏:‏ أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه استسقى بالعباس فدعا، فقال‏:‏ اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون‏.‏ وفي السنن‏:‏ أن أعرابيا قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ جهدت الأنفس، وجاع العيال، وهلك المال، فادع اللّه لنا، فإنا نستشفع باللّه عليك، وبك على اللّه‏.‏ فسبح رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، وقال‏:‏‏"‏ويحك ‏!‏ إن اللّه لا يستشفع به على أحد من خلقه، شأن اللّه أعظم من ذلك‏"‏‏.‏ فأقره على قوله‏:‏ ‏"‏إنا نستشفع بك على اللّه‏"‏، وأنكر عليه‏:‏ ‏"‏نستشفع باللّه عليك‏"‏؛ لأن الشافع يسأل المشفوع إليه، والعبد يسأل ربه ويستشفع إليه، والرب تعالى لا يسأل العبد ولا يستشفع به‏.‏

[ كيفية الزيارة الشرعية للقبور ]
وأما زيارة القبور المشروعة،فهو أن يسلم على الميت ويدعو له بمنزلة الصلاة على جنازته،كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا‏:‏ ‏"‏ سلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء اللّه بكم لاحقون، ويرحم اللّه المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل اللّه لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم‏"‏‏.‏ وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ما من رجل يمر بقبر رجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد اللّه عليه روحه حتى يرد عليه السلام‏"‏‏.‏ واللّه تعالى يثيب الحى إذا دعا للميت المؤمن، كما يثيبه إذا صلى على جنازته؛ ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك بالمنافقين، فقال عز من قائل‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏84‏]‏‏.‏ فليس في الزيارة الشرعية حاجة الحى إلى الميت، ولا مسألته ولا توسله به، بل فيها منفعة الحى للميت، كالصلاة عليه، واللّه تعالى يرحم هذا بدعاء هذا وإحسانه إليه، ويثيب هذا على عمله، فإنه ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏إذا مات ابن ادم انقطع عمله إلا من ثلاث‏:‏ صدقة جارية، أو علم ينتفع به من بعده، أو ولد صالح يدعو له‏"‏‏.‏

فصل[ حكم من يأتي إلى قبر النبي أو صالح ويسأله ويستنجدبه ]
وأما من يأتى إلى قبر نبي أو صالح، أو من يعتقد فيه أنه قبر نبي أو رجل صالح وليس كذلك، ويسأله ويستنجده فهذا على ثلاث درجات‏:‏
إحداها‏:‏ أن يسأله حاجته، مثل أن يسأله أن يزيل مرضه، أو مرض دوابه، أو يقضى دينه، أو ينتقم له من عدوه، أو يعافي نفسه وأهله ودوابه، ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا اللّه عز وجل، فهذا شرك صريح، يجب أن يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل‏.‏
وإن قال‏:‏ أنا أسأله لكونه أقرب إلى اللّه منى ليشفع لى في هذه الأمور؛ لأنى أتوسل إلى اللّه به كما يتوسل إلى السلطان بخواصه وأعوانه، فهذا من أفعال المشركين والنصارى، فإنهم يزعمون أنهم يتخذون أحبارهم ورهبانهم شفعاء يستشفعون بهم في مطالبهم، وكذلك أخبر اللّه عن المشركين أنهم قالوا‏:‏ ‏{‏مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفي‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 3‏]‏، وقال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 43، 44‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 4‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏‏.‏ فبين الفرق بينه وبين خلقه‏.‏ فإن من عادة الناس أن يستشفعوا إلى الكبير من كبرائهم بمن يكرم عليه، فيسأله ذلك الشفيع، فيقضى حاجته؛ إما رغبة، وإما رهبة، وإما حياءً وإما مودة، وإما غير ذلك، واللّه سبحانه لا يشفع عنده أحد حتى يأذن هو للشافع، فلا يفعل إلا ما شاء، وشفاعة الشافع من إذنه، فالأمر كله له‏.‏



ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه ‏:‏ ‏"‏لا يقولن أحدكم‏:‏ اللهم اغفر لى إن شئت، اللهم ارحمنى إن شئت، ولكن ليعزم المسألة، فإن اللّه لا مكره له‏"‏‏.‏ فبين أن الرب سبحانه يفعل ما يشاء لا يكرهه أحد على ما اختاره، كما قد يكره الشافع المشفوع إليه، وكما يكره السائل المسؤول إذا ألح عليه وآذاه بالمسألة‏.‏ فالرغبة يجب أن تكون إليه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 7، 8‏]‏‏.‏ والرهبة تكون من اللّه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 40‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏‏.‏ وقد أمرنا أن نصلى على النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء، وجعل ذلك من أسباب إجابة دعائنا‏.‏



وقول كثير من الضلال‏:‏ هذا أقرب إلى اللّه منى، وأنا بعيد من اللّه لا يمكننى أن أدعوه إلا بهذه الواسطة، ونحو ذلك من أقوال المشركين، فإن اللّه تعالى يقول‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 186‏]‏‏.‏ وقد روى‏:‏ أن الصحابة قالوا‏:‏ يارسول اللّه، ربنا قريب فنناجيه، أم بعيد فنناديه‏؟‏ فأنزل اللّه هذه الآية‏.‏ وفي الصحيح أنهم كانوا في سفر، وكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يا أيها الناس، ارْبَعُوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، بل تدعون سميعا قريبا، إن الذى تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته‏"‏ وقد أمر اللّه تعالى العباد كلهم بالصلاة له ومناجاته وأمر كلا منهم أن يقول‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وقد أخبر عن المشركين أنهم قالوا‏:‏ ‏{‏مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفي‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 3‏]‏‏.‏
ثم يقال لهذا المشرك‏:‏ أنت إذا دعوت هذا، فإن كنت تظن أنه أعلم بحالك وأقدر على عطاء سؤالك أو أرحم بك، فهذا جهل وضلال وكفر‏.‏ وإن كنت تعلم أن اللّه أعلم وأقدر وأرحم، فلم عدلت عن سؤاله إلى سؤال غيره‏؟‏ ألا تسمع إلى ما خرجه البخارى وغيره عن جابر رضي اللّه عنه قال‏:‏ كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول‏:‏ ‏"‏إذا هَمَّ أحدكم بأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل‏:‏ اللهم إنى أستخيرك بعلمك، واستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم،فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب‏.‏ اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لى في دينى ومعاشى، وعاقبة أمرى، فاقْدُرْه لى، ويسره لى، ثم بارك لى فيه، وإن كنت تعمل أن هذا الأمر شر لى في دينى، ومعاشى، وعاقبة أمرى، فاصرفه عنى، واصرفنى عنه، واقْدُرْ لى الخير حيث كان، ثم أرْضِنى به قال‏:‏ ويسمى حاجته‏"‏‏.‏ أمر العبد أن يقول‏:‏ ‏"‏أستخيرك بعلمك، واستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم‏"‏‏.‏


وإن كنت تعلم أنه أقرب إلى اللّه منك وأعلى درجة عند اللّه منك فهذا حق؛ لكن كلمة حق أريد بها باطل؛ فإنه إذا كان أقرب منك وأعلى درجة منك فإنما معناه‏:‏ أن يثيبه ويعطيه أكثر مما يعطيك، ليس معناه‏:‏ أنك إذا دعوته كان اللّه يقضى حاجتك أعظم مما يقضيها إذا دعوت أنت اللّه تعالى، فإنك إن كنت مستحقا للعقاب ورد الدعاء مثلا لما فيه من العدوان فالنبي والصالح لا يعين على ما يكرهه اللّه، ولا يسعى فيما يبغضه اللّه، وإن لم يكن كذلك، فاللّه أولى بالرحمة والقبول‏.‏

[ طلب الدعاء من الغير حيا كان أو ميتا ]
وإن قلت‏:‏ هذا إذا دعا اللّه أجاب دعاءه أعظم مما يجيبه إذا دعوته، فهذا هو:
القسم الثاني‏: وهو‏ ألا تطلب منه الفعل ولا تدعوه، ولكن تطلب أن يدعو لك‏.‏ كما تقول للحى‏:‏ ادع لى، وكما كان الصحابة رضوان اللّه عليهم يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم، الدعاء، فهذا مشروع في الحي كما تقدم، وأما الميت من الأنبياء والصالحين وغيرهم فلم يشرع لنا أن نقول‏:‏ ادع لنا، ولا اسأل لنا ربك، ولم يفعل هذا أحد من الصحابة والتابعين، ولا أمر به أحد من الأئمة، ولا ورد فيه حديث، بل الذي ثبت في الصحيح أنهم لما أجدبوا زمن عمر رضي اللّه عنه استسقى بالعباس، وقال‏:‏ اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون‏.‏ ولم يجيئوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم قائلين‏:‏ يا رسول اللّه، ادع اللّه لنا واستسق لنا، ونحن نشكوا إليك مما أصابنا، ونحو ذلك‏.‏ لم يفعل ذلك أحد من الصحابة قط، بل هو بدعة، ما أنزل اللّه بها من سلطان،بل كانوا إذا جاؤوا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يسلمون عليه، فإذا أرادوا الدعاء لم يدعوا اللّه مستقبلى القبر الشريف، بل ينحرفون ويستقبلون القبلة، ويدعون اللّه وحده لا شريك له كما يدعونه في سائر البقاع‏.‏


وذلك أن في ‏[‏الموطأ‏]‏ وغيره عنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏اللهم لا تجعل قبرى وثنا يعبد، اشتد غضب اللّه على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏"‏‏.‏ وفي السنن عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏لا تتخذوا قبرى عيداً، وصلُّوا على حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغنى‏"‏‏.‏ وفي الصحيح عنه أنه قال في مرضه الذى لم يقم منه‏:‏ ‏"‏لعن اللّه اليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏"‏ يحذر ما فعلوا‏.‏ قالت عائشة رضي اللّه عنها وعن أبويها‏:‏ ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً‏.‏ وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال قبل أن يموت بخمس‏:‏ ‏"‏إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإنى أنهاكم عن ذلك‏"‏‏.‏ وفي سنن أبي داود عنه قال‏:‏ ‏"‏لعن اللّه زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج‏"‏‏.‏
ولهذا قال علماؤنا‏:‏ لا يجوز بناء المسجد على القبور، وقالوا‏:‏ إنه لا يجوز أن ينذر لقبر، ولا للمجاورين عند القبر شيئاً من الأشياء، لا من درهم، ولا من زيت، ولا من شمع، ولا من حيوان، ولا غير ذلك، كله نذر معصية‏.‏ وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏من نذر أن يطيع اللّه فليطعه، ومن نذر أن يعصى اللّه فلا يعصه‏"‏‏.‏ واختلف العلماء‏:‏ هل على الناذر كفارة يمين‏؟‏ على قولين؛ ولهذا لم يقل أحد من أئمة السلف‏:‏ إن الصلاة عند القبور وفي مشاهد القبور مستحبة، أو فيها فضيلة،ولا أن الصلاة هناك والدعاء أفضل من الصلاة في غير تلك البقعة والدعاء، بل اتفقوا كلهم على أن الصلاة في المساجد والبيوت أفضل من الصلاة عند القبور قبور الأنبياء والصالحين سواء سميت ‏[‏مشاهد‏]‏ أو لم تسم‏.‏
وقد شرع اللّه ورسوله في المساجد دون المشاهد أشياء، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 114‏]‏، ولم يقل‏:‏ المشاهد‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏ ولم يقل‏:‏ في المشاهد، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ‏}‏‏[‏الأعراف‏:‏ 29‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 18‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا‏}‏ ‏[‏ الجن‏:‏ 18 ‏]‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ صلاة الرجل في المسجد تفضل على صلاته في بيته وسوقه بخمس وعشرين ضعفا‏"‏، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من بنى للّه مسجداً بنى اللّه له بيتا في الجنة‏"‏‏.‏


وأما القبور فقد ورد نهيه صلى الله عليه وسلم عن اتخاذها مساجد، ولعن من يفعل ذلك، وقد ذكره غير واحد من الصحابة والتابعين، كما ذكره البخارى في صحيحه والطبرانى وغيره في تفاسيرهم، وذكره وَثِيمَة وغيره في ‏[‏قصص الأنبياء‏]‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 23‏]‏، قالوا‏:‏ هذه أسماء قوم صالحين كانوا من قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم طال عليهم الأمد فاتخذوا تماثليهم أصناما‏.‏ وكان العكوف على القبور والتمسح بها وتقبيلها والدعاء عندها وفيها ونحو ذلك هو أصل الشرك وعبادة الأوثان؛ ولهذا قال النى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اللهم لا تجعل قبرى وثناً يعبد‏"‏‏.‏


واتفق العلماء على أن من زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين الصحابة وأهل البيت وغيرهم أنه لا يتمسح به، ولا يقبله، بل ليس في الدينا من الجمادات ما يشرع تقبيلها إلا الحجر الأسود‏.‏ وقد ثبت في الصحيحين‏:‏ أن عمر رضي اللّه عنه قال‏:‏ واللّه، انى لأعلم أنك حَجَر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنى رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلك ما قَبَّلتك‏.‏


ولهذا لا يسن باتفاق الأئمة أن يقبل الرجل أو يستلم ركنى البيت اللذين يليان الحجر ولا جدران البيت، ولا مقام إبراهيم، ولا صخرة بيت المقدس، ولا قبر أحد من الأنبياء والصالحين، حتى تنازع الفقهاء في وضع اليد على منبر سيدنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لما كان موجوداً، فكرهه مالك وغيره؛ لأنه بدعة، وذكر أن مالكا لما رأى عطاء فعل ذلك لم يأخذ عنه العلم، ورخص فيه أحمد وغيره؛ لأن ابن عمر رضي اللّه عنهما فعله‏.‏ وأما التمسح بقبر النبي صلى الله عليه وسلم وتقبيله فكلهم كره ذلك ونهى عنه؛ وذلك لأنهم علموا ما قصده النبي صلى الله عليه وسلم من حسم مادة الشرك، وتحقيق التوحيد وإخلاص الدين للّه رب العالمين‏.‏


وهذا ما يظهر الفرق بين سؤال النبي صلى الله عليه وسلم والرجل الصالح في حياته، وبين سؤاله بعد موته وفي مغيبه؛ وذلك أنه في حياته لا يعبده أحد بحضوره، فإذا كان الأنبياء صلوات اللّه عليهم والصالحون أحياء لا يتركون أحداً يشرك بهم بحضورهم، بل ينهونهم عن ذلك، ويعاقبونهم عليه، ولهذا قال المسيح عليه السلام ‏:‏ ‏{‏مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 117‏]‏‏.‏ وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما شاء اللّه وشئت، فقال‏:‏ ‏"‏أجعلتنى للّه نداً‏؟‏‏!‏ ما شاء اللّه وحده‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏لا تقولوا‏:‏ ما شاء اللّه وشاء محمد، ولكن قولوا‏:‏ ما شاء اللّه ثم شاء محمد‏"‏‏.‏ ولما قالت الجويرية‏:‏ وفينا رسول اللّه يعلم ما في غَدٍ‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏دعي هذا، قولي بالذي كنت تقولين‏"‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا‏:‏ عبد اللّه ورسوله‏"‏، ولما صفوا خلفه قياما، قال‏:‏ ‏"‏لا تعظموني كما تعظم الأعاجم بعضهم بعضا‏"‏، وقال أنس‏:‏ لم يكن شخص أحب إليهم من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له؛ لما يعلمون من كراهته لذلك‏.‏ ولما سجد له معاذ نهاه، وقال‏:‏ ‏"‏إنه لا يصلح السجود إلا للّه، ولو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، من عظم حقه عليها‏"‏‏.‏ ولما أتى على بالزنادقة الذين غلوا فيه واعتقدوا فيه الإلهية أمر بتحريقهم بالنار‏.‏فهذا شأن أنبياء اللّه وأوليائه، وإنما يقر على الغلو فيه وتعظيمه بغير حق من يريد علواً في الأرض وفساداً، كفرعون ونحوه، ومشائخ الضلال الذين غرضهم العلو في الأرض والفساد، والفتنة بالأنبياء والصالحين، واتخاذهم أرباباً، والإشراك بهم مما يحصل في مغيبهم وفي مماتهم، كما أشرك بالمسيح وعزير‏.‏

فهذا مما يبين الفرق بين سؤال النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وحضوره، وبين سؤاله في مماته ومغيبه، ولم يكن أحد من سلف الأمة في عصر الصحابة ولا التابعين ولا تابعى التابعين يتحرون الصلاة والدعاء عند قبور الأنبياء ويسألونهم، ولا يستغيثون بهم، لا في مغيبهم، ولا عند قبورهم، وكذلك العكوف‏.‏


ومن أعظم الشرك أن يستغيث الرجل بميت أو غائب، كما ذكره السائل، ويستغيث به عند المصائب يقول‏:‏ يا سيدى فلان، كأنه يطلب منه إزالة ضره أو جلب نفعه، وهذا حال النصارى في المسيح وأمه وأحبارهم ورهبانهم‏.‏ ومعلوم أن خير الخلق وأكرمهم على اللّه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأعلم الناس بقدره وحقه أصحابه، ولم يكونوا يفعلون شيئاً من ذلك؛ لا في مغيبه، ولا بعد مماته‏.‏ وهؤلاء المشركون يضمون إلى الشرك الكذب، فإن الكذب مقرون بالشرك، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 30‏:‏ 31‏]‏‏.‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏عَدَلت شهادة الزور الإشراك باللّه‏"‏ مرتين، أو ثلاثاً‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 152‏]‏، وقال الخليل عليه السلام ‏:‏ ‏{‏أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 86‏:‏ 87‏]‏‏.‏


فمن كذبهم أن أحدهم يقول عن شيخه‏:‏ إن المريد إذا كان بالمغرب وشيخه بالمشرق وانكشف غطاؤه رده عليه، وإن الشيخ إن لم يكن كذلك لم يكن شيخاً‏.‏ وقد تغويهم الشياطين، كما تغوى عباد الأصنام كما كان يجرى في العرب في أصناهم، ولعباد الكواكب وطلاسمها من الشرك والسحر، كما يجرى للتتار، والهند، والسودان، وغيرهم من أصناف المشركين؛ من إغواء الشياطين ومخاطبتهم ونحو ذلك‏.‏ فكثير من هؤلاء قد يجرى له نوع من ذلك، لا سيما عند سماع المكاء والتصدية؛ فإن الشياطين قد تنزل عليهم، وقد يصيب أحدهم كما يصيب المصروع‏:‏ من الإرغاء، والإزباد، والصياح المنكر، ويكلمه بما لا يعقل هو والحاضرون، وأمثال ذلك مما يمكن وقوعه في هؤلاء الضالين‏.‏

[ التوسل بالجاه والحرمة ]
وأما القسم الثالث‏:‏ وهو أن يقول‏:‏ اللهم بجاه فلان عندك، أو ببركة فلان، أو بحرمة فلان عندك، افعل بى كذا، وكذا‏.‏ فهذا يفعله كثير من الناس، لكن لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين وسلف الأمة أنهم كانوا يدعون بمثل هذا الدعاء، ولم يبلغني عن أحد من العلماء في ذلك ما أحكيه، إلا ما رأيت في فتاوى الفقيه أبي محمد بن عبد السلام‏.‏ فإنه أفتى‏:‏ أنه لا يجوز لأحد أن يفعل ذلك؛ إلا للنبي صلى الله عليه وسلم إن صح الحديث في النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ومعنى الاستفتاء‏:‏ قد روى النسائي والترمذي وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بعض أصحابه أن يدعو فيقول‏:‏ ‏"‏اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك نبي الرحمة، يا محمد، يا رسول اللّه، إني أتوسل بك إلى ربى في حاجتي ليقضيها لي‏.‏ اللهم، فشفعه في‏"‏‏.‏ فإن هذا الحديث قد استدل به طائفة على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته‏.‏ قالوا‏:‏ وليس في التوسل دعاء المخلوقين، ولا استغاثة بالمخلوق، وإنما هو دعاء واستغاثة باللّه، لكن فيه سؤال بجاهه، كما في سنن ابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر في دعاء الخارج للصلاة أن يقول‏:‏ ‏"‏اللهم إنى أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاى هذا، فإنى لم أخرج أشراً ولا بطرا ً، ولا رياءً ولا سمعةً‏.‏ خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذنى من النار، وأن تغفر لى ذنوبى، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت‏"‏‏.‏
قالوا‏:‏ ففي هذا الحديث أنه سأل بحق السائلين عليه، وبحق ممشاه إلى الصلاة، واللّه تعالى قد جعل على نفسه حقاً، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 47‏]‏، ونحو قوله‏:‏ ‏{‏كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْؤُولًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 16‏]‏‏.‏ وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ ‏"‏يا معاذ، أتدرى ما حق اللّه على العباد‏؟‏‏"‏‏.‏ قال‏:‏ اللّه ورسوله أعلم، قال‏:‏ ‏"‏حق اللّه على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً‏.‏ أتدرى ما حق العباد على اللّه إذا فعلوا ذلك‏؟‏ فإن حقهم عليه أن لا يعذبهم‏"‏‏.‏ وقد جاء في غير حديث‏:‏ ‏"‏كان حقاً على اللّه كذا وكذا‏"‏ كقوله‏:‏ ‏"‏من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوماً، فإن تاب تاب اللّه عليه، فإن عاد فشربها في الثالثة أو الرابعة كان حقاً على اللّه أن يسقيه من طينة الخَبَال‏"‏ قيل‏:‏ وما طينة الخبال‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏عصارة أهل النار‏"‏‏.‏


وقالت طائفة: ليس في هذا جواز التوسل به بعد مماته وفي مغيبه، بل إنما فيه التوسل في حياته بحضوره، كما في صحيح البخارى أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه استسقى بالعباس، فقال‏:‏ اللهم إنا كنا إذا أجْدَبْنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعَمِّ نبينا فاسقنا، فيسقون‏.‏ وقد بين عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أنهم كانوا يتوسلون به في حياته فيسقون‏.‏


وذلك التوسل به أنهم كانوا يسألونه أن يدعو اللّه لهم، فيدعو لهم، ويدعون معه، ويتوسلون بشفاعته ودعائه،كما في الصحيح عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان بجوار ‏[‏دار القضاء‏]‏، ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبل رسول اللّه، قائما، فقال‏:‏ يا رسول اللّه، هلكت الأموال، وانقطعت السُّبُل‏.‏ فادع اللّه لنا أن يمسكها عنا، قال‏:‏ فرفع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال‏:‏ ‏"‏اللهم، حوالينا ولا علينا اللهم على الآكَام والظِّرَاب وبُطُون الأودية ومَنَابِت الشجر‏"‏‏.‏ قال‏:‏ وأقلعت فخرجنا نمشى في الشمس، ففي هذا الحديث‏:‏ أنه قال‏:‏ ادع اللّه لنا أن يمسكها عنا‏.‏ وفي الصحيح‏:‏ أن عبد اللّه بن عمر قال‏:‏ إنى لأذكر قول أبي طالب في رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حيث يقول‏:‏

وأبيض يُسْتَسقى الغَمام بوجهه ثِمَال اليتامى عِصمة للأرامل‏

فهذا كان توسلهم به في الاستسقاء ونحوه‏.‏ ولما مات توسلوا بالعباس رضي اللّه عنه كما كانوا يتوسلون به ويستسقون‏.‏ وما كانوا يستسقون به بعد موته، ولا في مغيبه ولا عند قبره ولا عند قبر غيره، وكذلك معاوية بن أبي سفيان استسقى بيزيد ابن الأسود الجُرَشى، وقال‏:‏ اللهم إنا نستشفع إليك بخيارنا‏.‏ يا يزيد، ارفع يديك إلى اللّه، فرفع يديه، ودعا، ودَعْوا، فسقوا‏.‏ فلذلك قال العلماء‏:‏ يستحب أن يستسقى بأهل الصلاح والخير، فإذا كانوا من أهل بيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان أحسن‏.‏ولم يذكر أحد من العلماء أنه يشرع التوسل والاستسقاء بالنبي والصالح بعد موته ولا في مغيبه،ولا استحبوا ذلك في الاستسقاء ولا في الاستنصار ولا غير ذلك من الأدعية‏.‏والدعاء مُخُّ العبادة‏.‏

العبادة مبناها على السنة والاتباع، لا على الأهواء والابتداع، وإنما يعبد اللّه بما شرع، لا يعبد بالأهواء والبدع، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 21‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 55‏]‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الدعاء والطهور‏"‏‏.‏

[ حكم من إذا أصابته نائبة أو خوف استنجد بشيخه ]
وأما الرجل إذا أصابته نائبة أو خاف شيئا فاستغاث بشيخه، يطلب تثبيت قلبه من ذلك الواقع، فهذا من الشرك، وهو من جنس دين النصارى؛ فإن اللّه هو الذي يصيب بالرحمة ويكشف الضر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 107‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 2‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏40‏:‏ 41‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 56‏:‏ 57‏]‏‏.‏ فبين أن من يدعى من الملائكة والأنبياء وغيرهم لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويلا‏.‏

فإذا قال قائل‏:‏ أنا أدعو الشيخ ليكون شفيعا لى، فهو من جنس دعاء النصارى لمريم والأحبار والرهبان‏.‏ والمؤمن يرجو ربه ويخافه، ويدعوه مخلصا له الدين، وحق شيخه أن يدعو له ويترحم عليه؛ فإن أعظم الخلق قدرا هو رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وأصحابه أعلم الناس بأمره وقدره، وأطوع الناس له، ولم يكن يأمر أحدا منهم عند الفزع والخوف أن يقول‏:‏ يا سيدى، يا رسول اللّه، ولم يكونوا يفعلون ذلك في حياته ولا بعد مماته، بل كان يأمرهم بذكر اللّه ودعائه والصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏آل عمران173، 174‏]‏، وفي صحيح البخارى عن ابن عباس رضي اللّه عنهما ‏:‏ أن هذه الكلمة قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقى في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم يعنى وأصحابه حين قال لهم الناس‏:‏ إن الناس قد جمعوا لكم‏.‏ وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه كان يقول عند الكرب‏:‏ ‏"‏لا إله إلا اللّه العظيم الحليم، لا إله إلا اللّه رب العرش الكريم، لا إله إلا الله رب السموات والأرض ورب العرش العظيم‏"‏‏.‏ وقد روى أنه علم نحو هذا الدعاء بعض أهل بيته‏.‏ وفي السنن‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حَزَبَه أمر قال‏:‏ ‏"‏يا حى، يا قيوم، برحمتك أستغيث‏"‏‏.‏

وروى أنه علم ابنته فاطمة أن تقول‏:‏ يا حى، يا قيوم، يا بديع السموات والأرض، لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث، أصلح لى شأنى كله، ولا تِكَلْنى إلى نفسى طَرْفَة عين، ولا إلى أحد من خلقك‏"‏ ‏.‏
وفي مسند الإمام أحمد وصحيح أبي حاتم البستى عن ابن مسعود رضي اللّه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ما أصاب عبدًا قط هَمٌّ ولا حَزَن فقال‏:‏ اللهم إنى عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصِيتى بيدك، ماضٍ في حكمك، عَدْل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سَمَّيتَ به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو عَلَّمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك‏:‏ أن تجعل القرآن العظيم رَبِيع قلبى، ونور صدرى، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمى، إلا أذهب اللّه همه وغمه،وأبدله مكانه فرحا‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏يا رسول اللّه، أفلا نتعلمهن‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن‏"‏‏.‏ وقال لأمته‏:‏ ‏"‏إن الشمس والقمر آيتان من آيات اللّه، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن اللّه يُخَوِّف بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة، وذِكْر اللّه، والاستغفار‏"‏‏.‏ فأمرهم عند الكسوف بالصلاة والدعاء والذكر والعتق والصدقة، ولم يأمرهم أن يدعوا مخلوقا ولا ملكا ولا نبيا ولا غيرهم‏.‏
ومثل هذا كثير في سنته، لم يشرع للمسلمين عند الخوف إلا ما أمر اللّه به؛ من دعاء اللّه، وذكره والاستغفار، والصلاة، والصدقة، ونحو ذلك‏.‏ فكيف يعدل المؤمن باللّه ورسوله عما شرع اللّه ورسوله إلى بدعة ما أنزل اللّه بها من سلطان، تُضَاهى دين المشركين والنصارى‏؟‏‏!‏
فإن زَعَم أحد أن حاجته قضيت بمثل ذلك، وأنه مثل له شيخه ونحو ذلك، فعباد الكواكب والأصنام ونحوهم من أهل الشرك يجرى لهم مثل هذا، كما قد تواتر ذلك عمن مضى من المشركين، وعن المشركين في هذا الزمان‏.‏ فلولا ذلك ما عبدت الأصنام ونحوها، قال الخليل عليه السلام ‏:‏ ‏{‏وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 35، 36‏]‏ ‏.‏

[ أول ظهور الشرك ]
ويقال‏:‏ إن أول ما ظهر الشرك في أرض مكة بعد إبراهيم الخليل من جهة ‏"‏عمرو بن لُحِىِّ الخزاعي‏"‏،الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم يجر أمعاءه في النار‏.‏ وهو أول من سَيَّب السوائب، وغَيَّر دين إبراهيم‏.‏ قالوا‏:‏ إنه ورد الشام، فوجد فيها أصناما بالبلقاء، يزعمون أنهم ينتفعون بها في جَلْب منافعهم ودفع مضارهم، فنقلها إلى مكة، وسَنَّ للعرب الشرك وعبادة الأصنام‏.‏
والأمور التي حرمها اللّه ورسوله، من الشرك، والسحر، والقتل، والزنا وشهادة الزور، وشرب الخمر وغير ذلك من المحرمات، قد يكون للنفس فيها حظ مما تعده منفعة، أو دفع مَضَرَّة، ولولا ذ لك ما أقدمت النفوس على المحرمات التي لا خير فيها بحال، وإنما يوقع النفوس في المحرمات الجهل أو الحاجة‏.‏ فأما العالم بقبح الشيء والنهى عنه فكيف يفعله‏؟‏‏!‏ والذين يفعلون هذه الأمور جميعها قد يكون عندهم جهل بما فيه من الفساد، وقد تكون بهم حاجة إليها، مثل الشهوة إليها، وقد يكون فيها من الضرر أعظم مما فيها من اللذة ولا يعلمون ذلك لجهلهم أو تغلبهم أهواؤهم حتى يفعلوها، والهوى غالبا يجعل صاحبه كأنه لا يعلم من الحق شيئا، فإن حبك للشىء يُعْمِى ويُصِمُّ‏.‏
ولهذا كان العالم يخشى اللّه، وقال أبو العالية‏:‏ سألت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن قول اللّه عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏ 17‏]‏‏.‏ فقالوا‏:‏ كل من عصى اللّه فهو جاهل، وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب‏.‏ وليس هذا موضع البسط لبيان ما في المنهيات من المفاسد الغالبة وما في المأمورات من المصالح الغالبة، بل يكفي المؤمن أن يعلم أن ما أمر اللّه به فهو لمصلحة محضة أو غالبة، وما نهى اللّه عنه فهو مفسدة محضة أو غالبة، وأن اللّه لا يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليهم، ولا نهاهم عما نهاهم بُخْلاً به عليهم، بل أمرهم بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم؛ ولهذا وصف نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه ‏{‏يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏‏.‏



[ بيان حكم التمسح بالقبر وتقبيله وتمريغ الخد عليه ]
وأما التمسح بالقبر أىّ قبر كان وتقبيله، وتمريغ الخد عليه، فمنهى عنه باتفاق المسلمين، ولو كان ذلك من قبور الأنبياء، ولم يفعل هذا أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هذا من الشرك، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 23، 24‏]‏، وقد تقدم أن هؤلاء أسماء قوم صالحين كانوا من قوم نوح، وأنهم عَكَفوا على قبورهم مدة، ثم طال عليهم الأمد فصَوَّروا تماثيلهم؛ لا سيما إذا اقترن بذلك دعاء الميت والاستغاثة به‏.‏ وقد تقدم ذكر ذلك، وبيان ما فيه من الشرك، وبينا الفرق بين ‏[‏الزيارة البدعية‏]‏ التى تشبه أهلها بالنصارى و‏[‏الزيارة الشرعية‏]‏‏.‏



[ حكم وضع الرأس عند الكبراء من الشيوخ وتقبيل الأرض ]
وأما وضع الرأس عند الكبراء من الشيوخ وغيرهم، أو تقبيل الأرض ونحو ذلك، فإنه مما لا نزاع فيه بين الأئمة في النهى عنه، بل مجرد الانحناء بالظهر لغير اللّه عز وجل منهى عنه‏.‏ ففي المسند وغيره‏:‏ أن معاذ بن جبل رضي اللّه عنه لما رجع من الشام سجد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏ما هذا يا معاذ‏؟‏‏"‏‏.‏ فقال‏:‏ يا رسول اللّه، رأيتهم في الشام يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم، ويذكرون ذلك عن أنبيائهم، فقال‏:‏ ‏"‏كذبوا يا معاذ، لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عِظَم حقه عليها، يا معاذ، أرأيت إن مررت بقبرى أكنت ساجداً‏؟‏‏"‏‏.‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏لا تفعل هذا‏"‏، أو كما قال رسول اللّه صلى الله عليه

mmm_mmm63989

المساهمات : 152
تاريخ التسجيل : 03/09/2010

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى